فصل: ذكر عدة حوادث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل الحسين الحلاّج:

في هذه السنة قُتل الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيُّ وأُحرق، وكان ابتداء حاله أنّه كان يُظهر الزهد والتصوّف، ويُظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمدّ يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: {قل هو الله أحد} ويسمّيها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلّم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، وبالجملة فإنّ الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح، عليه السلام، فَمِنْ قائل أنّه حلّ فيه جزء ألهيّ، ويدّعي فيه الربوبيّة، ومِن قائل أنّه وليّ الله تعالى، وإنّ الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومِن قائل إنّه مشعبذ، وممَخرق، وساحر كذّاب، ومتكهّن، والجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها.
وكان قدم من خُراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظلّ تحت سقف شتاءً ولا صيفاً، وكان يصوم الدهر، فإذا جاء العشاء أحضر له القوّام كوز ماء، وقرصاً، فيشربه، وبعض من القرص ثلاث عضّات من جوانبه، فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه، ولا يأكل شيئاً آخر إلى الغد آخر النهار.
وكان شيخ الصوفيّة يومئذ بمكّة عبدالله المغربيّ، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاّج، فلم يجده في الحجر، وقيل له: قد صعد إلى جبل أبي قُبَيس؛ فصعد إليه، فرآه على صخرة حافياً، مكشوف الرأس، والعرق يجري منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه، فقال: هذا يتصبّر ويتقوّى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته؛ وعاد الحسين إلى بغداد.
وأمّا سبب قتله فإنّه نُقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد ابن العبّاس أنّه أحيا جماعة، وأنّه يحيي الموتى، وأنّ الجنّ يخدمونه، وأنّهم يُحضرون عنده ما يشتهي، وأنّه قد موّه على جماعة من حواشي الخليفة، وأنّ نصراً الحاجب قد مال إليه وغيره، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلّم إليه الحلاّج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب، فألحّ الوزير، فأمر المقتدر بتسليمه إليه، فأخذه، وأُخذ معه إنسان يُعرف بالشمريّ، وغيره، قيل إنّهم يعتقدون أنّه إلهٌ، فقرّرهم، فاعترفوا أنّهم قد صحّ عندهم أنّه إلهٌ، وأنّه يحيي الموتى، وقابلوا الحلاّج على ذلك، فأنكره وقال: أعوذ بالله أن ادّعي الربوبيّة، أبو النّبّوة، وإنّما أنا رجل أعبد الله، عزّ وجلّ! فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول، وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود، فاستفتاهم، فقالوا: لا يفتى في أمره بشيء، إلاّ أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول مَن يدّعي عليه ما ادعاه إلا ببيّنة إقرار.
وكان حامد يخرج الحلاّج إلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة.
وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجدّ في أمره، وجرى له معه قصص يطول شرحها، وفي آخرها أنّ الوزير رأى له كتاباً حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحجّ، ولم يمكنه، أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسات، ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله، وفعل ما يفعله الحاجّ بمكّة، ثمّ يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طَعامٍ يمكنه، ويُطعمُهُم في ذلك البيت، ويَخدُمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم، وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمَنْ حجّ.
فلمّا قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاّج: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ؛ قال له القاضي: كذبتَ يا حلالَ الدم! قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا؛ فلمّا قال له: يا حَلالَ الدمِ، وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا؛ فدافعه أبو عمرو، فألزمه حامد، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولّما سمع الحلاّج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي! وتفرّق الناس.
وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوى إليه، فأذن في قتله، فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة، فضربه ألف سوط فما تأوّه، ثمّ قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثمّ رجله، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب، فأقبل بعض أصحابه يقولون: إنّه لم يُقتل، وإنّما أُلقي شبه على دابّة، وإنّه يجيء بعد أربعين يوماً؛ وبعضهم يقول: لقيتُه على حمار بطريق النَّهروان، وإنّه قال لهم: لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذي يظنّون أنّي ضُربت وقُتلتُ.

.ذكر عدّة حوادث:

وفيها، في ربيع الأوّل، وقع حريق كبير في الكرخ، فاحترق فيه بشر كثير.
وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمّد بن نصر الحاجب، في جُمادى الأولى، وسار إلها فيه، فلمّا وصل إليها أوقع بمن خالفه من الأكراد المارانيّة، فقتل، وأسر، وأرسل إلى بغداد نيّفاً وثمانين أسيراً، فشُهروا.
وفيها قُلّد داود بن حمدان ديار ربيعة.
وفيها توفّي أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سهل بن عطاء الآدميُّ الصوفيُّ من كبار مشايخهم وعُمائهم، وأبو إسحاق إبراهيم بن هارون الحرّانيُّ الطبيب، وأبو محمّد عبدالله بن حمدون النديم. ثم دخلت:

.سنة عشر وثلاثمائة:

.ذكر حرب سيمجور مع أبي الحسين بن العلويّ:

قد ذكرنا قتل ليلى بن النُّعمان، وأنّ جُرجان تخلّف بها بارس غلام قراتكين، فلمّا قُتل ليلى بن النُّعمان عاد قراتكين إلى جُرجان، فاستأمن إليه غلامه ارس، فقتله قراتكين، وانصرف عن جُرجان، وقدمها أبو الحسين ابن الحسن بن عليّ الأُطروش العلويّ، الملقّب والده بالناصر، وأقام بها، فأنفذ إليه السعيد نصر بن أحمد سيمجورَ الدواتيَّ في أربعة آلاف فارس، فنزل على فرسخين من جُرجان، وحاصر أبا الحسين نحو شهر من هذه السنة.
وخرج إليه أبو الحسين في ثمانية آلاف رجل من الدَّيلم، والجُرجانيّة، وصاحب جيشه سُرخاب بن وهسوذان ابن عمّ ما كان بن كالي الديلميّ، فتحاربا حرباً عظيمة، وكان سيمجور قد جعل كميناً من أصحابه، فأبطأوا عنه، فانهزم سيمجور، ووقع أصحاب أبي الحسين في عسكر سيمجور، واشتغلوا بالنهب والغارة، فخرج عليهم الكمين بعد الظفر، فقتلوا من الديلم والجُرجانيّة نحو أربعة آلاف رجل، وانهزم أبو الحسين، وركب في البحر ثمّ عاد إلى أسّتراباذ، واجتمع إليه فلّ أصحابه.
وكان سُرخاب قد تبع سيمجور في هزيمته، فلمّا عاد رأى أصحابه مقتّلين مشرّدين، فسار إلى استراباذ، واستصحب معه عيال أصحابه ومخلّفيهم، وأقام بها مع أبي الحسين بن الناصر، ثم سمع سيمجور بظفر أصحابه، فعاد إليهم، وأقام بجرجان، ثمّ اعتلّ سُرخاب ومات، ورجع ابن الناصر إلى سارية، واستخلف ما كانَ بن كالي على استراباذ، فاجتمع إليه الديلم، وقدّموه، وأمّروه على أنفسهم.
ثمّ سار محمّد بن عبيد الله البلغميُّ وسيمجور إلى باب استراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي، فلمّا طال مقامهم اتّفقوا معه على أن يخرج عن استراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالاً ليظهر للناس أنّهم قد افتتحوها، ثمّ ينصرفون عنها ويعود إليها، ففعل وسار إلى سارية، ثمّ رحلوا عن استراباذ إلى جُرجان، ثمّ إلى نَيسابور، وجعلوا بُغرا باستراباذ، فلمّا ساروا عنها عاد إليها ما كان بن إلى، ففارقها بغرا أليلأ جُرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بُغرا إلى نَيسابور، وأقام ما كان بجرجان؛ ونحن نذكر ابتداء حال ما كان، وننقلها عند قتله سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

.ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أحمد بن أسد السامانيّ:

ثمّ خرج إلياس بن إسحاق بن أحمد، المقدَّم ذكره أنّه خرج مع أبيه، وانهزم إلى فرغانة، فلمّا بلغ فرغانة أقام بها إلى أن خرج ثانياً، واستعان عند خروجه بمحمّد بن الحسين بن متّ، وجمع من الترك، فاجتمع معه ثلاثون ألف عنان، فقصد سَمَرْقَنْد مشاقّاً للسعيد نصر بن أحمد، فسيّر إليه نصر أبا عمرو محمّد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة رجل، فكمنوا خارج سَمَرْقَنْد يوم ورود إلياس، فلمّا وردها، واشتغل هو ومَن معه بالنزول، خرج الكمين عليه من بين الشجر، ووضعوا السيوف فيهم، فانهزم إلياس وأصحابه، فوصل إلياس إلى فرغانة، ووصل ابن متّ إلى اسبيجاب، ومنها إلى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها، وأُطمع، وقَبض عليه، وقتلهن وأنفذ رأسه إلى بخارى.
وكان ابن متّ شجاعاً، وكان قد سخّر جمالاً عند خروجه، فجاء أصحابه يطلبونها منه، فقال: سأردّها عليكم ببغداد، يعني أنّه لا يردّ شيئاً من بغداد، ثقةً بكثرة جمعه وقوّته، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحسا.
ثمّ عاد إلياس فخرج مرّة ثالثة، وأعانه أبو الفضل بن أبي يوسف، صاحب الشاش، فسيّر إليه محمّد بن ألِيسَع، فحاربهم، فانهزم إلياس إلى كاشْغَر، وأُسر أبو الفضل، وحُمل إلى بخارى فمات بها.
وأمّا إلياس فصاهر دهقان كاشْغَر طغانتكين، واستقرّ بها، ثمّ وليَ محمّد بن المظفَّر فرغانة، فرجع إليها إلياس بن إسحاق معانداً، فحاربه محمّد ابن المظفَّر، فهزمه مرّة أخرى، فعاد إلى كاشغر، فكاتبه محمّد بن المظفّر، واستماله، ولطف به، فأمن إلياس إليهن وحضره إلى بخارى، فأكرمه السعيد، وصاهره، وأقام معه.

.ذكر وفاة محمّد بن جرير الطبريّ:

وفي هذه السنة توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلاً بداره، لأنّ العامّة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادعو عليه الرفض، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد؛ وكان عليٌّ بن عيسى يقولك والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه، وهكذا ذكره ابن مِسكويه صاحب تجارب الأمم، وحُوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء.
وأمّا ما ذكره عن تعصّب العامّة، فليس الأمر كذلك، وأنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه، فتبعهم غيرهم، ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أرادوا:
حَسدوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيّة ** فالناسُ أعداءٌ له وخُصومُ

كضرائرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها ** حسَداً وبَغياً إنّه لَدَمِيمُ

وقد ذكرت شيئاً من كلام الأئمّة في أبي جعفر يُعلم منه محلّه في العلم، والثقة، وحسن الاعتقاد، فمن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب، بعد أن ذكر مَن روى الطبريُّ عنه، ومَن روى عن الطبريّ، فقال: وكان أحد أئمّة العلماء يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومَن بعدّهم في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، خبيراً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، والكتاب الذي في التفسير لم يصنّف مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، وأخبار من أقاويل الفقهاء؛ وتفرّد بمسائل حُفظتْ عنه.
وقال أبو أحمد الحسين بن عليّ بن محمّد الرازيُّ: أوّل ما سألني الإمام أبو بكر بن خُزَيمة قال لي: كتبتَ عن محمّد بن جرير الطبريّ؟ قلتُ: لا! قال: لِمَ؟ قلتك لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه؛ فقال: بئس ما فعلت! ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنه؛ وسمعت عن أبي جعفر، وقال حسين: واسمه الحسين بن عليّ التميميُّ، عن ابن خُزَيمة نحو ما تقدم.
وقال ابن خُزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبريّ: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر، ولقد ظلمتْه الحنابلة.
وقال أبو محمّد عبدالله بن أحمد الفرغانيُّ، بعد أن ذكر تصانيفه: وكان أبو جعفر ممّن لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل، في علمه وتبيانه، عن حقّ يلزمه لربّه للمسلمين، إلى باطل لرغبة ولا رهبة، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل، وحاسد، وملحد.
وأمّا أهل الدين والورع فغير منكرين علمه، وفضله، وزهده، وتركه الدنيا مع إقبالها عليه، وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلّفها له أبوه بطبرستان يسيرة؛ ومناقبه كثيرة لا يحتمل ها هنا أكثر من هذا.

.ذكر عدة حوادث:

فيها أطلق المقتدر يوسفَ بن أبي الساج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم وحُمل إليه، ودخل إلى المقتدر، وخلع عليه، ثمّ عقد له على الرّيّ، وقَزوين، وأبهر، وزنجان، وأذربيجان، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بيت المال سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد.
وخلع في هذا اليوم على وصيف البكتمريّ، وعلى طاهر ويعقوب ابنَيْ محمّد بن عمرو بن الليث.
وتجهّز يوسف، وضمّ إليه المقتدرُ بالله العساكر مع وصيف البكتمريّ، وسار عن بغداد في جمادى الآخرة إلى أذربيجان، وأمر أن يجعل طريقه على الموصل، وينظر في أمر ديار ربيعة، فقدم إلى الموصل، ونظر في الأعمال، وسار إلى أذربيجان، فرأى غلامه سُبُكاً قد مات.
وفيها قُلّد نازوك الشُّرطة ببغداد.
وفيها وصلت هدية إلى أبي زبور الحسين بن أحمد الماذرائي من مصر وفيها بغلة، ومعها فِلْوٌ يتبعها، ويرضع منها، وغلام طويل اللسان، ويلحق لسانه أرنبة أنفه.
وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة، وكان سبب ذلك أنّها زوّجت ابنة أختها من أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان محسناً، له نعمة ظاهرة، ومروءة حسنة، وكان يرشّح للخلافة، فلمّا صاهرتْه أكثرت من النثار والدعوات، وخسّرت أموالاً جليلة، فتكلّم أعداؤها، وسعوا بها إلى المقتدر، وقالوا إنّها قد سعت لأبي العبّاس في الخلافة، وحلّفت له القوّاد؛ وكثر القول عليها، فقبض عليها، وأخذ منها أموالاً عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها غزا المسلمون في البرّ والبحر، فغنموا وسلموا.
وفيها كان بالموصل شغب من العامّة، وقتلوا خليفة محمّد بن نصر الحاجب بها، فتجهّز العسكر من بغداد إلى الموصل.
وفيها، في جُمادى الآخرة، انقضّ كوكب عظيم له ذنب في المشرق في برج السنبلة، طوله نحو ذراعَينْ.
وفيها سار محمّد بن نصر الحاجب من الموصل إلى الغزاة على قَالِيقَلا، فغزا الروم من تلك الناحية، ودخل أهل طَرَسُوس ملَطْية، فظفروا، وبلغوا من بلاد الروم والظفر بهم ما لم يظنّوه وعادوا.
وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن العبّاس بن محمّد بن أبي محمّد اليزيديُّ الأديب، أخذ العلم عن ثعلب والرياشيّ. وحج بالناس هذه السنة إسحاق عبد الملك الهاشمي. ثم دخلت:

.سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:

.ذكر عزل حامد وولاية ابن الفرات:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، عزل المقتدرُ حامدَ بن العبّاس عن الوزارة، وعليَّ بن عيسى عن الدواوين، وخلع على أبي الحسين بن الفرات، وأعيد إلى الوزارة.
وكان سبب ذلك أن المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد، والحُرَم، والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم، فإنّ عليّ بن عيسى كان يؤخّرها، فإذا اجتمع عدّة شهور أعطاهم البعض، وأسقط البعض، وحطّ من أرزاق العمّال في كلّ سنة شهرَيْن، وغيرهم ممّن له رزق، فزادت عداوة الناس له.
وكان حامد بن العبّاس قد ضجر من المُقام ببغداد، وليس إليه من الأمر شيء غير لبس السواد، وأنف من طّراح عليّ بن عيسى بجانبه، فإنّه كان يُهينه في توقيعاته بالإطلاق عليه لضامنه بعض الأعمال، وكان يكتب: ليطلق جهبذ الوزير أعزّه الله، وليبادر نائب الوزير.
وكان إذا شكا إليه بعض نوّاب حامد يكتب على القصّة: إنّما عقد الضمان، على النائب الوزيريّ، عن الحقوق الواجبة السلطانيّة، فليتقدّم إلى عمّاله بكفّ الظلم عن الرعيّة. فاستأذن حامد، وسار إلى واسط لينظر في ضمانه، فأذن له، وجرى بين مفلح الأسود وبين حامد كلام، قال له حامد: لقد هممتُ أن أشتري مائة خادم أسود، وأسمّيهم مُفلحاً، وأهبهم لغلماني؛ فحقده مُفلح، وكان خصّيصاً بالمقتدر، فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة، وضمن أموالاً جليلة، وكتب على يد رقعة يقول: أن يُسلّم الوزير، وعليّ بن عيسى، وابن الحواريّ، وشفيع اللؤلؤيّ، ونصر الحاجب، وأمّ موسى القهرمانة، والمادرانيّون يستخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار.
وكان المحسن مطلقاً، وكان يواصل السعاية بهؤلاء الجماعة، وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحواريّ كلّ سنة من المال، فاستكثره، فقبض على عليّ بن عيسى في ربيع الآخر، وسُلّم إلى زيدان القهرمانة، فحبسته في الحجرة التي كان ابن الفرات محبوساً فيها، وأُطلق ابن الفرات، وخُلع عليه، وتولّى الوزارة، وخُلع على ابنه المحسن، وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات.
وكان أبو عليّ بن مقلة قد سعى بابن الفرات، وكان يتقلّد بعض الأعمال أيّام حامد، فحضر عند ابن الفرات، وكان ابن الفرات هو الذي قدّم ابن مقلة، وربّاه، وأحسن إليه، ولّما قيل عنه إنّه سعى به لم يصدق ذلك، حنّى تكرّر ذلك منه.
ثمّ إنّ حامداً صعد من واسط، فسيّر إليه ابن الفرات من يقبض عليه في الطريق وعلى أصحابه، فقبض على بعض أصحابه، وسمع حامد فهرب واختفى ببغداد؛ ثمّ إنّ حامداً لبس زيّ راهب، وخرج من مكانه الذي اختفى فيه، ومشى إلى نصر الحاجب، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل عليه، وسأله إيصال حاله إلى الخليفة، فاستدعى نصر مفلحاً الخادم وقال: هذا يستأذن إلى الخليفة، إذا كان عند حرمه.
فلمّا حضر مُفلح فرأى حامداً قال: أهلاً بمولانا الوزير؛ أين مماليكك السودان الذين سمّيتَ كلّ واحد منهم مُفلحاً؟ فسأله نصر أن لا يؤاخذه، وقال له: حامد يسأل أن يكون محبسه في دار الخليفة، ولا يُسلّم إلى ابن الفرات.
فدخل مُفلح، وقال ضدّ ما قيل له، فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات، فأُرسل إليه، فحبسه في دار حسنة، وأجرى عليه من الطعام، والكسوة، والطيب، وغير ذلك ما كان له وهو وزير، ثمّ أحضره، وأحضر الفقهاء والعمّال، وناظره على ما وصل إليه من المال، وطالبه به، فأقرّ بجهات تقارب ألف ألف دينار وضمنه المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من المقتدر بخمسمائة ألف دينار، فسلّمه إليه، فعذّبه بأنواع العذاب، وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ما له بواسط، وأمرهم بأن يسقوه سمّاً، فسقوه سمّاً في بيض مشوي، وكان طلبه، فأصابه إسهال، فلمّا وصل إلى واسط أفرط الإغيام به، وكان قد تسلّمه محمّد بن علي البَزَوْفريُّ، فلما رأى حاله أحضر القاضي والشهود ليشهدوا عليه أن ليس له في أمره صنع، فلمّا حضروا عند حامد قال لهم: إن أصحاب المحسن سقوني سمّاً في بيض مشوي، فأنا أموت منه، وليس لمحمّد في أمري صنع، لكنّه قد أخذ قطعة من أموالي وأمتعتي، وجعل يحشوها في المَساور، وتباع المِسْوَرةُ في السوق بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم، ووضع عليها مَن يشتريها ويحملها إليه، فيكون فيها أمتعة تساوي ثلاثة آلاف دينار، فاشهدوا على ذلك.
وكان صاحب الخبر حاضراً، فكتب ذلك، وسيّره، وندم البزوفريُّ على ما فعل، ثمّ مات حامد في رمضان من هذه السنة، ثمّ صودر عليُّ بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار، فأخذه المحسن بن الفرات ليستوفي منه المال، فعذّبه وصفعه فلم يؤدّ إليه شيئاً.
وبلغ الخبر الوزير أبا الحسن بن الفرات، فأنكر على ابنه ذلك، لأنّ عليّاً كان محسناً إليهم أيّام ولايته، وكان قد أعطى المحسن، وقت نكبته، عشرة آلاف درهم، وأدّى عليُّ بن عيسى مال المصادرة، وسيّره ابن الفرات إلى مكّة وكتب إلى أمير مكّة لِيُسيّره إلى صنعاء، ثمّ قبض ابن الفرات على أبي عليّ بن مقلة، ثمّ أطلقه؛ وقبض على ابن الحواريّ، وكان خِصّيصاً بالمقتدر، وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه عذاباً شديداً، وكان المحسن وقحاً، سيئ الأدب ظالماً، ذا قسوة شديدة، وكان الناس يسمّونه الخبيث بن الطيّب؛ وسيّر ابن الحواريّ إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال التي له، فضربه الموكَّل به حتّى مات.
وقبض أيضاً على الحسين بن أحمد، ومحمّد بن عليّ المادرانيّين، وكان الحسين قد تولّى مصر والشام، فصادرهما على ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار، ثمّ صادر جماعة من الكتّاب ونكبهم.
ثمّ إنّ ابن الفرات خوّف المقتدر من مؤنس الخادم، وأشار عليه بأن يسيّره عن الحضرة إلى الشام ليكون هنالك، فسمع قوله، وأمره بالمسير، وكان قد عاد من الغزاة، فسأل أن يقيم عدّة أيّام بقيت من شهر رمضان، فأُجيب إلى ذلك، وخرج في يوم شديد المطر.
وسبب ذلك أنّ مؤنساً لمّا قدم ذكر للمقتدر ما اعتمده ابن الفرات من مصادرات الناس، وما يفعله ابنه من تعذيبهم وضربهم، إلى غير ذلك من أعمالهم، فخافه ابن الفرات، فأبعده عن المقتدر، ثمّ سعى ابن الفرات بنصر الحاجب، وأطمع المقتدر في ماله وكثرته، فالتجأ نصر إلى أمّ المقتدر، فمنعته من ابن الفرات.

.ذكر القرامطة:

وفيها قصد أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجريُّ البصرة، فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل، ومعه السلاليم الشعر، فوضعها على السور، وصعد أصحابه ففتحوا الباب، وقتلوا الموكلين به؛ وكان ذلك في ربيع الآخر.
وكان على البصرة سُبُك المُفلحيُّ، فلم يشعر بهم إلاّ في السَّحَر، ولم يعلم أنّهم القرامطة بل اعتقد أنّهم عرب تجمّعوا، فركب إليهم، ولقيهم، فقتلوه ووضعوا السيف في أهل البصرة، وهرب الناس إلى الكَلإِ وحاربوا القرامطة عشرة أيّام، فظفر بهم القرامطة، وقتلوا خلقاً كثيراً وطرح الناس أنفسهم في الماء، فغرق أكثرهم.
وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة، والنساء والصبيان، فعاد إلى بلده؛ واستعمل المقتدر على البصرة محمّد بن عبدالله الفارقيّ، فانحدر إليها وقد سار الهجريُّ عنها.